شرق غرب | العدد 2, جغرافية ثقافية | 01 September 2014
حمود بن حمد الغيلاني
مدينة صُور العُمانية.. تلك المدينة الحالمة على ضفاف بحر عُمان، مدينة وادعة، إلا أن أهلها استطاعوا أن يقهروا جبروت البحر؛ فيمَّمت أساطيلهم شرق المحيط الهندي وغربه؛ أقاموا لهم مراكز اتصال وتواصل مع مختلف الأمم والشعوب. وكبقية العُمانيين، استطاعوا -بمنهجهم المتميز، والمعتمد على: حُسن الخلق، وحُسن التعامل- أن يكسبوا ودَّهم وصداقتهم.
وقد تشبَّع الصُّوريون بثقافة السفر منذ عُهود قديمة؛ فمدينة صُور ليس بها مجالات موسَّعة للعمل؛ فأرضها جبليَّة صخريَّة، وليس أمامهم سوى البحر؛ فالطفل ابن السابعة والثامنة يرحل مع والده في عَرْض البحر لأيام بحثاً عن السمك، ولما يشتدَّ عوده، يرتقي السفن العابرة للمحيطات التي يمتلكها أبناء المدينة.. أبحر نحو الشرق الآسيوي، فوصل الهند، وتجاوزها إلى جزر إندونيسيا وماليزيا وخليج الملايو، وانطلق ميمِّماً نحو الصين. وفي الجانب الآخر، نجده يخوض البحر الأحمر، لا يأبه لشُعَبِه المرجانية الخطرة، ثم يرتحل غرباً نحو الشرق الإفريقي، غير هيَّاب لأمواجه العالية وصخوره، كأنه يستنشد الشاعر اليمني أحمد بكير، الذي يقول:
أبو عوض قال صبراً يالزبر على المخالع
مثلما يصبر الصُّوري على بحر بوكين
وعند رحيل السفن من صُور مُبحرة نحو العراق أو الهند وشرقي إفريقيا، يُمارس الصُّوريون طقوسا اعتادوا عليها؛ فالنواخذة قبل بداية الموسم يمدُّون البحارة بمبالغ مالية تسمَّى في العرف البحري الصُّوري “قلاطة”، وهي جُزء من المبلغ المتفق عليه كأجرة للبحار طوال الموسم. الغاية من ذلك: أنْ يقوم البحار بتوفير كافة احتياجات أسرته ومُؤنتهم طوال فترة سفره. ومن طقوس السفر أيضاً: تجد كافة أبناء المدينة -رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً- يخرجون عَصْر ذلك اليوم إلى شاطئ البحر؛ حيث تلقي السفن مراسيها في المنطقة المعروفة في صُور باسم “البارة”.. ولا أعلم: هل البارة أطلق عليها هذا الاسم لأنها جزءٌ من حضن صُور يلتقي بالعائدين من السفر؛ فيكون لها السبق في احتضان العائدين شوقاً وولهاً، أم هو شَوْق المسافر حينما يقبل قادمًا من سفرته؛ فتكون أول وقفة لسفينته في مَدْخل الخور المعروف باسم “البارة”؛ فيُقبل إليها بشَوْق الابن البار لمدينته ولأهله!
عُرِفتْ مدينة صُور بـ”درة الشرق”؛ عرفانا لما قدَّمته من أجيال عبرتْ بسفنها البحار والمحيطات؛ فوصلتْ سفنهم شرقاً جزر الملايو وسومطرة والهند، واتجهوا غرباً ليصلوا إلى سواحل إفريقيا الشرقية والجنوبية. ومما تجدُر الإشارة إليه أنه في ترحالي إلى الشرق الإفريقي، لمستُ سرَّ تعلق الأفارقة بالصُّوريين؛ فقد كان أبناء صُور من النواخذة والتجار والبحارة. وأسوة ببقية العُمانيين، رُسل محبَّة وسلام، ورجال يصدق حُسن الظن فيهم؛ لتعاملهم الأخلاقي والراقي مع شعوب تلك البلدان التي تعاملوا معها في كلا الضفتين للمحيط الهندي: الشرقية، والغربية. ويكفي أن نشير هنا إلى قصَّة التاجر الصُّوري العُماني عبيد الله بن سالم الخضوري الصُّوري، الذي وَصَل إلى سواحل إفريقيا الغربية -خصوصا الكونغو- ولحسن تعامله مع أهلها، جعلوا منه ملكاً عليهم لمدة ستة عشر عاماً، ولولا الشَّوق للعفية “صُور” لما عاد تاركا ملكه.
اللهجة الصُّورية
إنَّ الباحث المتفحِّص للهجة الصُّورية، سوف يلاحظ غنى مفرداتها؛ بما تحتويه من مُفردات من نحو ما يزيد على ثماني عشرة لغة ولهجة، وهو أمر جديرٌ بالملاحظة؛ نتيجة تواصل الصُّوريين مع شعوب وأمم مختلفة؛ فأثروا في لغاتها ولهجاتها، كما تأثروا هم أيضا. فعلى سبيل المثال: من المفردات التي دخلت اللهجة الصُّورية: اسم “السماور”؛ والسماور: خزان الماء المصنوع من النحاس، وبتتبُّع أصل هذه الكلمة، اتضح أن أصلها مغولي/أوكراني، وبتتبُّع كيفية وصول هذه الكلمة إلى الصُّوريين، اتضح لنا أن قوافل التجارة من وسط آسيا وغربها، التي كانت تصل إلى الهند للتجارة؛ ونتيجة لذلك حَدَث التواصل بين الطرفين من التجار؛ فوظَّفها الصُّوريون في لهجتهم. وهناك العديد من المفردات؛ من لغات مثل: الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والفرعونية القديمة، والأمورية، والأشورية، والفارسية؛ هذا من باب المثال لا الحصر.
الفنون الشعبية في صُور
تُعتبر مدينة صُور مركزَ الفنون الشعبية العُمانية؛ فلا يوجد فن عُماني لا يُمارَس في صُور، بينما نلاحظ أن هناك العديدَ من الفنون العُمانية التي لا تُمارس إلا في مدينة صُور فقط، أو ما جاورها؛ من باب التأثر والتأثير.
كما تجدُر بنا هنا الإشارة إلى أن الفنون الشعبية في مدينة صُور ترافق الصُّوري من قبل مولده وحتى وفاته. ولإيضاح ذلك: هناك فنون شعبية يُمارسها الصُّوريون تقال للجنين وهو في بطن أمه، وفنون لما بعد الولادة، وفنون لمرحلة الطفولة…وغيرها لمرحلة الشباب، ومن ثم مرحلة الزواج. وكل عمل أو مهنة لها فنها الخاص في مسار حياته، وبعد مماته هناك فن يُوصي البعض به عند وفاته، وهو من الفنون الجنائزية؛ ويُعرف باسم فن “المشل”.
ويُلاحظ الباحث أنَّ الفنون الشعبية في مدينة صُور تأثرتْ بالعديد من الفنون الإفريقية والآسيوية؛ نتيجة للتواصل الذي استمرَّ ألوفاً من السنين مع مُختلف الحضارات الإفريقية والآسيوية.
والفنون الشعبية في مدينة صُور تقسَّم إلى أربعة أنواع -من حيث: جنس الممارِس- فهناك فنون للرجال، وأخرى للنساء، وثالثة للأطفال، ورابعة تُعتبر فنوناً مُختلطة بين الرجال والنساء، وإن كان دور الرجال هنا يقتصر في مُعظمها على الإيقاعيين والشعراء.
كما يُلاحظ أن من النساء من تجرَّأن على اقتحام ما يخصُّ الرجال؛ فمثلا: فن الرزحة؛ هو فن رجالي بحت، إلا أنَّ الشاعرات من النساء في مدينة صُور بارزن شعراء الرزحة؛ فهذه الشاعرة تقول:
سيدي الأمر أمرك حيرت بالرعية
والقبائل تلاحقت في خلا المدهوية
العادات والتقاليد
هُناك العديد من العادات والتقاليد العُمانية في مدينة صُور، وهي عادات وتقاليد عربية وإسلامية، ولا يزال الكثير منها يُمارَس حتى اليوم، خاصة تلك المرتبطة بالأعياد الإسلامية، أو بالزواج وحالات الوفاة، وأبناء صُور عِشَريون (يحبُّون العِشْرة) بطبعهم، سريعو التفاعل اجتماعيًّا. ومن هنا؛ نجد أنهم يميلون إلى تكوين العلاقات الاجتماعية مع الجميع، هذا الأمر يُمكن رصده من خلال التفاعل مع الأحداث والمناسبات.
ومن عادات الصُّوريين القديمة: استقبال القادمين من السفر قديماً، الذين كانوا يُبحرون بسفنهم. وعند العودة، تُطلق السفينة عددًا من الأعيرة النارية للإعلان عن مقدمهم؛ فيهب الجميع لاستقبال القادمين؛ فيطلقون أعيرة من بنادقهم للترحيب، بينما يصعد بعض الشباب إلى قواربهم -مثل: الهوري- لاستقبال السفن. كما يتجمَّع كبار السن على الشاطئ، ويُمكننا ملاحظة النساء وقد اتَّخذن جانبا؛ البعض منهن يحملن أطفالهن، لاستقبال أزواجهن أو أولادهن وإخوتهن، وعند اللقاء تختلط الدموع بابتسامات الفرح؛ فهذا المسافر يعانق أو يقبل يد أمه، يحمل على صَدْره طفله الذي قد يكون أقبل إلى الدنيا وهو في سفره.
ومن عادات الصُّوريين في عِيْدي الفطر والأضحى: الاستعداد للعيد قبل قدومه؛ فيشتري أفضل الحلل والملابس، له ولأسرته وللقائم عليهم جميعاً. وفي عيد الأضحى: يشتري الأضاحي، والحلوى العُمانية. أما في صَبِيْحة العيد، فيلبس أزهى الثياب، ويتمنطق بالخنجر، بينما يحمل البعض السيوف، ويحمل الآخرون البنادق، ويتَّجه لأداء صلاة العيد يُرافقه أطفاله. وبعد انتهاء الصلاة، يتجمَّع المصلون شيبا وشبابا، ويؤدُّون فن الرزحة، يزورون بيوت المشايخ. بينما يكون المشايخ قد أعدُّوا وجبة الإفطار من العرسية (من الرز واللحم). وبعد ذلك، يتجهون لزيارات أهلهم وأرحامهم وأصدقائهم وجيرانهم، لا يفرِّقون بين بَيْت غني أو فقير. وفي عيد الأضحى أيضا -وبعد الصلاة- يعودون لنحر أضاحيهم؛ تقرُّبا لله أسوة بإبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام.
ومن العادات الرائعة أيضا: الزواج؛ فبعد الخطبة وتحديد يوم الزواج، يُشارك الجميع في الفرح، ويحضرون عملية عقد القران (المِلْكة)، ويُزفُّ العريس في السابق مشيًا على الأقدام على إيقاع فن الرزحة.
التكافل الاجتماعي في صُور
ومن الأمور الحميدة التي كانتْ تنتشر في مدينة صُور: التكافل بين أفراد المجتمع؛ فبسبب طبيعة الصُّوريين، ترحل النسبة العُظمى من الرجال مُسافرة في السفن؛ فتلك المئات من السفن التي ترحل مع بداية الموسم، تكاد تُصبح مدينة صُور شبه خالية من الرجال إلا من كبار السن، أو مَنْ تأخَّر من الشباب لسبب ما.. والمتبقون منهم، تراهم يكفلون أسر المسافرين في توفير احتياجاتهم، والعناية بهم، وتوفير الأمن لهم؛ فلا يكاد يُوجد بيت إلا واحتياجاته قد تمَّ توفيرها وقضاؤها للأسرة في غياب عائلها؛ فكثيرا ما نلاحظ الشباب يقومون بخدمة تلك الأسر؛ فيتجهون إلى الأسواق لشراء ما يلزمها، بينما نجد الأغنياء منهم يُسارعون في تزويد تلك الأسر في حال نقص عليهم غذاؤهم أو حاجتهم. ومما يُذكر في هذا الشأن: قصص جابر العثرات…وغيره من أغنياء صُور.
الأنشطة الثقافية والأدبية قديما
مارس الصُّوريون مجالات مُختلفة من الأنشطة الأدبية قديما، ولم تقتصر الساحة على المدينة فحسب، بل كانت المسامرات الأدبية والشعرية تُمارس أيضًا على سطح السفينة أثناء إبحارها.
ففي المدينة التي كانت تستقبل الشعراء من مُختلف ولايات السلطنة، نجد أنه هاجر إلى صُور عددٌ من الشعراء؛ نذكر منهم: الشاعر حافظ المسكري، والشاعر عامر بن سليمان الشعيبي -المعروف باسم مطوع- فالمدينة كانت مسرحًا في أدبياتها لعدد كبير من الشعراء من أبناء المدينة؛ مثل: الشاعر محمد بن جمعة الغيلاني، والشاعر سعيد بن عبدالله ود وزير الفارسي، والشاعر سعيد بن سالم الفارسي، والشاعر راشد بن مبارك الرزيقي، وخادم بن راشد الهاشمي…وغيرهم.
المبارزات الشعرية
وكانت المبارزات الشعرية تأخذ حيزا كبيرا أثناء ممارسة الفنون الشعبية كالرزحة والميدان وبن عبادي…وغيرها، كما كانت تُعقد أمسيات شعرية يتناول فيها الشعراء مُختلف مجالات الشعر. والجدير بالإشارة أنَّ هذه الأمسيات كان يحضرها عدد من الشاعرات اللائي كُنَّ يتخذن جانبا غير بعيد، يستمعن إلى القصائد التي تلقى، فيرتجزن أشعارهن، ويكلفن أحد أبنائهن أو أقربائهن بإلقائها بالإنابة.. ومن أمثلة هذه المساجلات:
– محمد الغيلاني:
صلوا على من دمّر هيزار الكفرْ… بصواهلن دهمة وسيوف باترة
علـــى نبي هاشمي من لبة مضرْ… نرجى شفاعته وشربة كـــوثره
– خادم الهاشمي:
ألف الصلاة على النبي خير البــــشرْ… ربي خلق حوت وهوامن في بحره
لو مب محمد ما استوت أرض وشجرْ… ولا شي بقت دنيا وقصُور عامرة
– حافظ المسكري:
سميت بالله قبل ملفوظ الكـــــــــــلام.. اسم تفرق في رعود بارقة
ولا بستفهمك بعاوضك يا ابن الحلال.. يـوم محبتك في قلبي عالقة
– سعيد بن سالم الفارسي:
زل ورخام أكثر من قماش الشــمالْ.. وأما البضائع أكــــــثرها مصندقة
وانزلي يا نعمة واسقي بستان الغزالْ.. عسى النخل تلسع غدوره واعسقه
الأمسيات الأدبية
وكان من فوائد التنقل والسفر -خاصَّة إلى العراق- أنَّ الصُّوريين كانوا يحضرون الكتب في مُختلف المجالات الأدبية، وكانت تستهويهم؛ خاصة تلك التي تتناول الأخلاق والفروسية والشجاعة، إضافة إلى الكتب الأدبية والمعاجم اللغوية. ومن أمثلة هذه الأمسيات الأدبية: اللقاء في المجالس؛ حيث كان المجيدون للقراءة يقومون بقراءة تلك الكتب بينما الجميع يستمع؛ فكأن الأمر أشبه بـ”الحكواتي” وهو يلقي قصصه وحكاياته. ومن جانب آخر، كان للأطفال جانب في هذه المجال؛ فكلُّ ليلة كانت الجدات يجمعن الأطفال، ويبدأن في سرد القصص والروايات، خاصة تلك التي تحضُّ على التمسك بالدين والأخلاق والشجاعة والعمل والتقارب والتراحم.
ومن جهة أخرى، كانت السفن لا تخلو من الكتب الأدبية والحكايات؛ فقد حَرِص النواخذة على أن تكون تلك الكتب من الأشياء الأساسية التي ترافقهم في سفرهم. وفي المساء -وتحديدا بعد صلاة العشاء- يجتمعُ البعض في السفينة في الجزء المعروف باسم “الشتري”؛ حيث مقام النواخذة وعِلْية المسافرين، يقرؤون الكتب الأدبية والروايات. وبين أصوات الأمواج وحركة السفينة، تسمع التأوهات من المستمعين لموقف قام به عنترة بن شداد العبسي، وأبو زيد المهلهل.